عندما سقط الأهلي في إحدى أماسي يونيو 2022 إلى دوري يلو الدرجة الأولى إثر تعادلٍ قاتل أمام الشباب (0–0)، راح بعض نجومه يرون في مغادرة السفينة المنهارة مخرجًا يحفظ سمعتهم ويجدد طموحاتهم، بلا إدراكٍ أنهم يبتعدون عن محطة صعود "فرسان نجد" مجددًا إلى منصة القمة الآسيوية.
هبوطٌ تاريخيٌّ وأوهام الفرار
في الرابع والعشرين من يونيو 2022، انهارت سلسلةٌ طويلةٌ من الأداء المتوازن للأهلي وسقط إلى الدرجة الأولى السعودية، محطةٌ استثنائيةٌ أجبرت الإدارة على ترشيد الإنفاق وتقليص الرواتب، مما جعل كثيرين من المحترفين يتخوفون من ضياع حقوقهم المالية ويبحثون عن وجهاتٍ أكثر استقرارًا.
وفي غضون أسابيع، انضمّت كتيبةٌ من اللاعبين – محليين وأجانب – إلى أندية الهلال والنصر والقادسية القطري، ظنًّا أن التوقيع مع "فرق المال" يضمن لهم مواصلة النجاح.
عمر السومة… الرّمح الذي تراجع عن القتال
أكثر من أستاذٍ ترك بصمته في ستوديوهات التحليل يودّ لو أنه صبر ولو شهرًا واحدًا إضافيًا ليشهد مجد حضوره الآسيوي الأول.
ففي صيف 2014 حلّ عمر السومة (31 عامًا) في جدة قادمًا من القادسية الكويتي، وكتب أحد أشهر سِجلات الهدافين في تاريخ القارة عبر 193 هدفًا في 251 مباراة. حمل شارة القيادة في أصعب فترات النادي، ورفض الإغراءات مبكرًا لتمديد العقد وهو الشريك الرئيس في "الرباعية المحلية"، لكن قرار البقاء أو الرحيل كان قاسياً بعد عام 2022.
رغم إعلان السومة استعداده لتخفيض راتبه إلى النصف، حتى لا يتحمّل النادي أعباء مالية إضافية، نُسج خلافٌ بالغموض مع الإدارة حول آليات الصرف والتسويات المالية، فانتهى به الأمر مع بداية موسم 2022–2023 معارًا إلى العربي القطري، ثم بيعًا نهائيًا بعد صعود الأهلي للدوري الممتاز.
قبل عام واحد، حقّق الأهلي حلمه القاري؛ لكن السومة لم يحظَ بفرصةٍ واحدةٍ لمواصلة مسلسل التألق هناك، ليجد نفسه اليوم في مرمى مطرقة السقوط مع نادي العروبة، فيما راسخوا سابقوه قصص الأمجاد الآسيوية.
عناصر أخرى اختارت طريق الهروب
لم يتوقف الأمر عند "أسطورة السومة"، بل تعرّض الأهلي لانتكاساتٍ أخرى بعد تخفيض الرواتب، حيث تهافت لاعبو المحور والدفاع على عروضٍ من الهلال والنصر، وآخرون اتخذوا وجهاتٍ أوروبيةٍ أو خليجية تحت شعار "استقرار وظروف أفضل".
ثلّةٌ من المحترفين الأجانب، استُقدموا لتعزيز صفوف الفريق في ظروف المال السهل قبل 2022، غادروا في موسم الأزمة، فيما قلّت المحاولات لإعادتهم حين استعاد النادي عافيته فنيًا وماليًا.
أبرز المغادرين:
- لاعبو وسطٍ أمثال إبراهيم شراحيلي: الذين فضّلوا عرضًا محليًا أعلى على طموح القلب الكاتالوني فعادوا إلى دورينا ثم خرجوا بتواضع.
- محترفون أجانب أمثال الأوروغوياني مابيل والإسباني رينكون: الذين رحلوا مع إيقاف العقود، ولم تُستدعاهم إدارة الأزمات في 2023 لتعويض الثغرات القليلة أمام تلوّن الموسم الآسيوي.
المجد القاري جاء بحضور «الثابتين»
على مدى 12 جولة في النسخة المنتهية من دوري النخبة الآسيوية، تألّق "فرسان نجد" حاملين شارة الثبات العائلي:
- ويندرسون جالينو وفرانك كيسييه: في قلب الهجوم وصناعة الأهداف.
- رياض محرز وروبرتو فيرمينو وإدوارد ميندي: بقمصان الأبطال الأوروبيين.
- إضافةً إلى صُناع صنعوا قصةً محليةً أصيلةً: تربّوا داخل جدران النادي وارتبطوا به كدمٍ ينبض في عروقه.
هؤلاء لم يهربوا في أوقات الأزمة، بل أثبتوا ثباتهم بحضورهم في المباريات الحاسمة منذ الدور ربع النهائي وحتى الأدوار القطريّة والمحطات "الميني" التي سبقت النهائي، ليكون لقاؤهم مع كاواساكي فرونتال بمثابة الضربة القاضية للعقود الممزقة وعيون الذين نأوا بأنفسهم عن النادي عندما كان فى أسفل جدول المحترفين.
دروسٌ للوفاء والنجاحات الجماعية
تعكس رحلة الأهلي بين 2022 و2025 فكرةً رئيسيةً: الوفاء ليس مجرد شعارٍ يُطلق في الأوقات المريحة، بل قدرةٌ على العطاء وسط العواصف المالية والفنية.
فالاندفاع خلف عرضٍ مغرٍ قد يحمِل الفرد بعيدًا عن محطة المجد الحقيقي، بينما يبقى صُناع الإنجاز الجماعي هم أولئك القادرين على البقاء والقتال حتى تحقيق الهدف الأسمى.
ومع أن بعض من "القفازة" اختاروا الركض خلف سرابٍ سريعٍ في أندية أخرى، يظل الأهلي مثالًا للإدارة الحكيمة والقوة الفنية التي توفّر بيئةً مستقرّةً لمواصلة البطولات.
فمن يختار المخاطرة برؤية قصيرة الأمد يفوّت على نفسه فصلاً من التاريخ لا يُعاد شرقه.
الختام: عودة “فرسان نجد” ومستقبل الوفاء
بينما ترفع جماهير "جدة الحمراء" شعاراتها في أروقة استاد الملك عبدالله، تذكّرهم تجارب الأمس بفضل قيمة التضحية والثبات، وأن أي لاعب – مهما علا اسمه – قد يُنسى إذا غادر السفينة قبيل الوصول إلى مرفأ الذهب القاري.
فالأهلي اليوم وفي بعد هذه الكلمات، يتوّج ملكًا جديدًا لآسيا، والذين باركوا قرار الابتعاد لن يكون لهم مكان في حكاية بطولةٍ لن تتكرر بسهولة، إذ يُكتب النجاح الجماعي بحبرٍ من فولاذٍ لا يصدأ.
