حلم النهائي يبدو أقرب
لم تخلُ أرض سان سيرو ليلة الثلاثاء الماضي من مشهدٍ كرويٍّ دراميٍّ يليق بمسابقةٍ في حجم دوري أبطال أوروبا، إذ استضاف إنتر ميلانو برشلونة في إياب نصف النهائي، بعد تعادلهما 3-3 ذهابًا على ملعب كامب نو. وقدمت القمة هديةً لا تُنسى لعشاق الساحرة المستديرة؛ ففي الوقت الذي ظن فيه الجميع أن التعادل الإيجابي كافيٌ لمرّةٍ ثالثةٍ على التوالي، قلب الفرنسيون المباراة رأسا على عقب في الأشواط الإضافية، وفازوا 4-3، ليصلوا إلى النهائي بملحمةٍ تحاكي أساطير كرة القدم.
دخل الفريق الإيطالي الشوط الإضافي الأول متقدمًا بأغلبيةٍ معنويةٍ، بعد الأداء المتميز في الـ90 دقيقة، وحسن قراءة الكرات الثابتة والضربات المرتدة. لكن ما حدث في 3+90 و9 دقائق من الوقت الإضافي يحسب لإنزاجي ولمنظومته الدفاعية التي لم تتلوث بالإرهاق كما يحدث أحيانًا. سجل فرانشيسكو أتشيربي هدف التعادل القاتل في الدقيقة 93، قبل أن يخطف دافيد فراتيسي هدف التأهل في الدقيقة التاسعة من الشوط الإضافي الأول، محولًا مجموع المباراتين إلى 7-6 لصالح الأفاعي الزرقاء.
شوط أول إبداعي تحت قيادة إنزاجي
سيطر إنتر على أول 45 دقيقة بفضل التعليمات التكتيكية المحكمة، فقد عمل على تأمين أجنحته الدفاعية تحت قيادة فيديريكو ديماركو الذي أوقف خطورة لامين يامال، وصار يامال أحد معالم برشلونة الضائعة في تلك الفترة. استغل إنتر ثغرات الجبهة اليمنى لبرشلونة لزيارة مرمى يان سومر عن طريق لاوتارو مارتينيز في الدقيقة 21، قبل أن يمنح حكم اللقاء البولندي سيمون مارشينياك الفريق الإيطالي ركلة جزاءٍ في الدقيقة 35 إثر عرقلةٍ داخل المنطقة، نفَّذها هاكان تشالهان أوغلو بنجاحٍ (2-0).
شهد الشوط الأول تنظيمًا دفاعيًا وإغلاقًا للمساحات أمام خطوط برشلونة، دون أن يتحول إلى “باصٍ متحركٍ”، فحرص إنزاجي على بناء هجماتٍ مرتدةٍ سريعةٍ، ما أثمر عن تأخر البرسا في افتكاك الكرة والهجوم المضاد. وكان أداء وسط ميدان الإنتر يمثل سدا منيعًا أمام فيران توريس ورافينيا، حتى بدا أن بلوغ النهائي بات وشيكًا.
التراجع الغامض وعودة الأفاعي لدغ نفسها
بدا إنتر في الشوط الثاني متراجعًا نسبيًا، ففتح دفاعاته أمام ثنائي برشلونة هانز فليك، الذي دفع بثلاثيٍّ هجوميٍّ مكوّنٍ من إريك جارسيا وداني أولمو وفيران توريس. واستغل البلوجرانا هذا التراجع ليقلص الفارق بهدفٍ من جارسيا من تسديدةٍ على الطائر بعدها بتمريرةٍ بينيةٍ مميزةٍ (2-1)، ثم تعادل أولمو قبل نهاية الوقت الأصلي بدقيقةٍ واحدةٍ بعد عرضيةٍ أرضيةٍ متقنةٍ (2-2). ولم يمضِ سوى دقيقةٍ حتى سدد رافينيا صاروخيةً اصطدمت بالعارضة ودخلت الشباك عبر ظهر سومر (3-2)، كأن لريال مدريد السابق مؤامرةً ضد إنتر، إلا أن كرة القدم لا تعرف هذا المنطق.
لحظة التعادل الحاسم وبدء ملحمة الـ120 دقيقة

وأثناء فرح احتفال برشلونة المؤقت، باغت فرانشيسكو أتشيربي الجميع بهدفٍ قاتلٍ في الدقيقة 3+90، إثر عرضيةٍ ثابتةٍ قابلها برأسٍ متقنٍ، معلنًا تعادل المواجهة ومضيها نحو الأشواط الإضافية.. وما حصل لاحقًا كان أروع منعطفٍ في تاريخ نصف نهائي أبطال أوروبا.
فراتيسي “البطل المجهول”
مع دخول الشوط الإضافي الأول، بدا إنتر مصممًا على عدم تكرار سيناريو التراجع، فاستعاد توازنه التنظيمي، وبرز نجمٌ جديدٌ في سماء اللقاء: دافيد فراتيسي. لم يكن اسمه يتردد كثيرًا خارج الدوائر الإيطالية، لكنه نفّذ تحركًا ذكيًّا في الدقيقة 9 من الشوط الإضافي الأول، مركضًا خلف مدافع برشلونة ووصل إلى كرةٍ طائشةٍ أمام المرمى ليسددها أرضيةً بكل هدوءٍ في الزاوية البعيدة، (4-3)، منقذًا إنتر من الاشتباك الإضافي والثالث، ومهدًّا له الطريق صوب نهائي ميونيخ.
أنقذ إنتر ليسحذ الصدارة ويشتري الأمل
أنقذت هذا الهدف العبقري (4-3) النيراتزوري، حينما بدا أن الكفة سائرة لصالح البلوجرانا – خاصةً بعد تألق فليك وجمهوره في القسم الثاني – فقد عادت الثقة للمجموعة وتماسك الدفاع على عكس اعتقاد البعض بأن هذه الآلة الدفاعية ستنهار تحت الضغط، ولكنها بدت وكأنها مصنعٌ منيعٌ للدوافع والإيمان.
فليك وفلسفته المميتة

لم يفلح هانز فليك صاحب نجماتٍ عديدةٍ في تحقيق هدفه، رغم تبديلاته المبكرة بإشراك لوكاس موريبا وليامين وغيرهما، في تغيير مسار اللقاء. لقد صنعت فلسفة فليك من برشلونة هجومًا لا يستطيع الانسحاب سريعًا عندما يضيق عليه الثغرات، فأدى ذلك إلى منح إنتر مساحاتٍ مغايرةٍ في عمق ملعب البرسا، وهي أخطاءٌ تكتيكيةٌ دفعت الإنتر للعودة بثقةٍ.
ختام يعيد كتابة الأساطير
بهذا الفوز المذهل 4-3 في سان سيرو، يتأهل إنتر ميلانو إلى نهائي دوري أبطال أوروبا 2024–2025 بمجموع 7-6، متجاوزًا برشلونة بعد معركتين ملحميتين، ليضرب موعدًا تاريخيًا مع الفائز من قمة باريس سان جيرمان وأرسنال. وسيسجل إنزاجي اسمه في قائمة القلائل الذين نجحوا في قلب مواجهتين تاريخيتين بمجموع الأهداف، بينما سيظل شبح “الجولة الأوروبية المنسية” يطارد برشلونة بعد رحلته القارية الأعظم التي لم تكتب النهاية لها مجدًا.
في هذه القمة التي خاضها إنتر بطعم الانتصار المزدوج ولحظات الفرحة والسقوط والنهوض، تأكد أن كرة القدم هي ساحة العصامية الفردية والجماعية في آن، وأن “البطل المجهول” قد يأخذ فرصته مرةً واحدةً ليصنع معجزةً لا تُنسى.