
لا ماسيا الفرنسية وطموح الفتى اللافت
في عصرٍ بدا فيه المستطيل الأخضر محكومًا بقواعدٍ صارمةٍ وسلوكٍ احترافيٍّ لامع، يظل إريك كانتونا اسماً استثنائيًا يحمل في طياته روحَ المتمرد والفنان. أسطورةٌ فرنسيةٌ قادته خطواته من شوارع مارسيليا إلى قمم كرة القدم الإنجليزية، حاملاً دومًا ياقته المرفوعة وعقليته التي ترفض التنازل عن المبادئ.
بدأت حكاية كانتونا كمراهقٍ موهوبٍ اكتشف مبكرًا أن الملعب أكثر من مساحةٍ للركض، بل هو مسرحٌ للعواطف والإبداع. رغم تنشئته الأولى في صفوف مارسيليا، لم يروِ شغفه إلى الانطباع التقليدي؛ بل بحث عن صوتٍ يعيد صياغة ذاته خارج خطوط التماس. وعندما انتقل إلى ليون ثم إلى أنديةٍ فرنسيةٍ أخرى، ظل يحمل في صدره حبًّا متمردًا جعلته يرفض البقاء أسيرًا لنظامٍ لا يسمح بالتجديد.
العمالقة في إنجلترا: رحلة الشياطين الحمر

في يناير 1992، لمع اسمه في سماء مانشستر يونايتد مع السير أليكس فيرجسون، كجزءٍ من مشروعٍ أوروبيٍ جديدٍ. وعلى الرغم من أنه كان الأول من نوعه في حقبة البريمييرليج المبكر، فرض الشاب الفرنسي شخصيته عبر مهاراته الفنية وجرأته في الهجوم والتمريرات القاتلة. وفي موسم 1992–1993، قاد الفريق إلى أول لقبٍ في 26 عامًا، متجاوزًا كلاسيكيات اللعبة بالرقص مع الكرة وإطلاق التسديدات الخاطفة.
عبقرية تناقضات

لم يكن من السهل الانتقال بين عبقريته داخل المستطيل الأخضر وحواراته الغامضة أمام الكاميرات. ففي لقاءٍ صحفيٍّ، حين طُلب منه شرح دوافعه، اكتفى بالقول:
“أنا ألعب ضد فكرة الاستسلام، لا ضد الخصم.”
أقلّ اقتباسٍ يذكره بفلسفة خاصةٍ بتدمير الفقرات الجاهزة للعبة. وكلما ظهر بنمطٍ غامضٍ أو أطل بختامٍ شعريٍّ مقتبسٍ من جيم موريسون وThe Doors، تذكّر الجميع أنه لا منتجًا للنظام ولا نسخةً متكررةً في الملعب.
ركلة الكونغ فو: ردٌّ ضدّ التعصّب
في 25 يناير 1995، كتب كانطونا فصلاً من فصول التمرد الشهير حين قام بركلةٍ سريعةٍ باتجاه مشجعٍ عنصريٍّ بصق عليه خلال مباراةٍ ضد كريستال بالاس. وخلال محاكمته، لم ينكر فعلته، بل اعتبرها صرخةً ضدّ الكراهية، مستشهدًا بما قاله موريسون:
“عرّض نفسك لأعمق مخاوفك…”
ثم أتمّ عبارته البرّاقة بالقول:
“عندما تتبع طيور النورس مركب الصيد، يكون ذلك لأنهم يعتقدون أن السردين سيتم إلقاؤه في البحر.”
هذه المجازية الساخرة أكسبته لقب “ملك الكلاسيكو المتمرد”، وشهدت تجربته إيقافه ثمانية أشهرٍ وتحديدًا مرحلةً سوداءً في مسيرته الكروية على الورق، لكن على المسرح الاحترافي، رفع القميص ومشى نحو الحرية بثقةٍ أكبر.
الروح الفنية خارج المستطيل
لم يقتصر ولع كانطونا على الملعب؛ فقد خاض تجربةً موسيقيةً بمفرده، وعرض ألبومه الشخصي، تردد فيه صدى تأثير جيم موريسون والصوت الباريتون العاطفي الذي جعله ينتقل من ميدانٍ إلى استديو تسجيل. وشبّه بعض النقاد إنتاجه الموسيقي بعبقرية The Doors في تحليل الهواجس والظلال، ما عزّز صورته كلاعبٍ لا يساوم على أصالته ولا يخشى اختراق أسوار العزلة.
إرث متمرد في “البريميرليج”
حين يراجع عشاق مانشستر يونايتد سجلّ البطولات الثلاثية (1993–1997) في عهد فيرجسون، يكتشفون أن كانطونا كان قلبًا نابضًا وملهمًا لرموزٍ كـبيكهام وجيرارد وجاي غيغز. فقد زرع في نفوسهم الشجاعة على تحدي القيود قبل بحثهم عن مزيدٍ من الألقاب. ولم يعد ثمة شك في أن قصة كانتونا هي شهادةٌ على أن أساطير كرة القدم تصنع بعنصر التجرد من القيود واستلهام قوةٍ داخليةٍ لا تنل عنها تكتيكاتٌ ولا عقودٌ ضخمة.
دروسٌ للجيل الجديد
يروي نسّاق ماركا وموندو ديبورتيفو بانتظامٌ قصص كانطونا ليذكروا اللاعبين الصاعدين أن الدهشة الفنية أزلى من المثالية الصارمة. وأن الانفلات الإبداعي تحت الأضواء لا يتنافى مع تحقيق البطولات، بل قد يشعلها. ومهما تطورت اللعبة، سيبقى الفرنسي ذو الياقة المرفوعة مثالًا لمن يختار أن يسبح عكس التيار، يرفض ما “يُفترض قبوله”، ويصنع التاريخ بأسلوبٍ خارج عن المألوف.